عرفاه عند كسر الخبز لم يشعر التلميذان بطول الطريق، فالحديث شائق والغريب متكلّم متبحّر. فكم من سَفَرٍ مضنٍ بلا رفيق! وكم من رحلةٍ سارّةٍ بمشارَكة أشخاص مفوَّهين! ها قد وصلوا إلى القرية التي كانا يقصدانها.. تظاهر الغريب بأنّه ماضٍ إلى مكان أبعد. ولكنّهما، جرياً على العادات الشرقيَّة في ضيافة الغريب، ألحّا عليه قائلَين: "امكثْ معنا، فقد حان المساء ومال النهار". فدخل ليمكث معهما. ولمّا جلس معهما للطعام، أخذ الخبز وبارَك ثمّ كسره وناولهما. فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب عنهما. فقال أحدهما للآخَر: "أما كان قلبنا متّقداً في صدرنا، حين كان يحدّثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟". لقد اكتشفا هويّة الغريب عند كسر الخبز. أعاد يسوع ما صنعه ليلة العشاء السرّيّ، فتذكّرا قوله: "اصنعوا هذا لذكري" (لوقا 22/19). لم يستطيعا التعرّف إليه بفضل قسمات وجهه وأقواله، ونظراته ونبرة صوته، ولكن كان حسبه أن يأخذ الخبز ويقتسمه وأن يبارك الخمر ويناوله، حتّى يتبدّد الضباب ويجدا نَفْسيهما وجهاً لوجه أمام الناهض من الموت، يسوع المسيح الحيّ، الذي أضرم قلبَيهما حبّاً ورجاء طوال الطريق. إنّها "ليتُرجيّا الإفخارستيّا" التي نجدّدها في كلّ قدّاس نرفعه، كما كان يقوم بها المسيحيّون الأوائل: "يواظبون على تعليم الرُسُل والمشارَكة وكسر الخبز والصلوات" (أعمال 2/42). هو المسيح الحاضر بيننا تحت شكل الخبز والخمر غذاءً روحيّاً نازلاً من السماء "ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ!" (الليتُرجيّا الأرمنيَّة)، وترياقاً "لشفاء النَفْس والجسد" (الليتُرجيّا الأرمنيَّة)، وذبيحةً خلاصيَّةً تفتح أمامنا أبواب الملكوت حيث أُعدّت لنا مائدة روحانيَّة: "طوبى للمدعوّين إلى وليمة عرس الحَمَل" (رؤيا 19/7 ومتّى 8/11 و26/29). في هذا العام الذي أراده قداسة البابا عاماً مكرَّساً للقربان المقدَّس فلنجدّدْ إيماننا بهذا السرّ الفائق الإدراك، ولنواظبْ على التناول بضمير نقيّ وقلب طاهر، ولنكثرْ من ساعات السجود رافعين على مذبح الربّ شكرنا وعرفاننا، وواضعين أمامه آلامنا وآمالنا، وطالبين السلام والطمأنينة لذواتنا وعائلاتنا والعالَم أجمع. "بين ظلال النهار في المغيب، والظلمة التي تُحيق بالنَفْس، كان هذا المسافر شعاعاً من نُور أحيا فيهما الأمل، وفتح قلبَي (تلميذَي عِمَّاوُس) إلى كمال النُور. "امكثْ معنا"، توسّلا إليه. فقبل الدعوة. وبعد قليل سيغيب وجه يسوع، ولكنّ المعلّم سيبقى حاضراً تحت ستار "الخبز المبارَك" وقد انفتحت أمامه أعينهما" (رسالة البابا يوحنّا بولس الثاني، "امكثْ معنا، يا ربّ"، 1). عندما يميل النهار ويخيّم الظلام على حياتنا، فلنلتجئ إلى السيّد المسيح بثقة قائلين: "امكثْ معنا، يا ربّ". - امكثْ معنا، يا ربّ، لتنفتح عيوننا بنُورك المُضيء فنرى وجهك في ملامح كلّ إنسانٍ غريب ومحتاج وبائس ومسكين. - امكثْ معنا، يا ربّ، لتمتلئ آذاننا بكلمتك المُحيية، فنكتشف إرادتك من خلال إنجيلك الطاهر وتعاليم كنيستك. - امكثْ معنا، يا ربّ، ليضطرم قلبنا بحضورك المُرتجى، فنتغلّب على صعوبات الحياة ونطرح عنّا أفكار السوء ونعيش في رزانة وتقوى. - امكثْ معنا، يا ربّ، لتُحلّ عقدة لساننا بموهبة روحك القدّوس فنسبّحك ونمجّدك ونشكرك ونعلن للملأ أنّ الكمال كلّه حلّ بك، وأنّك حقّقت السلام بدم صليبك ونُور قيامتك (راجع قولسي 1/15-20). - امكثْ معي، يا ربّ، "واجعلني، أنا أيضاً، أكتشف ما لا يدرك: وجهك المخفيّ الذي أبتغيه، وليتلاشَ قلبي في صدري بذكرى حبّك السماويّ" (القدِّيس نرسيس شنورهالي، "يسوع الابن الوحيد"، الفقرة 777). | ||
via مين غيرك بيحن عليا http://www.meen-8yrk.com/vb/showthread.php?t=1985&goto=newpost
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق